فوبيا التقاعد .. ( مُصارحةٌ لا بدَّ منها ) !!
فوبيا التقاعد .. ( مُصارحةٌ لا بدَّ منها ) !!
بقلم : سعد التميمي .. شقراء .
هيمنَ ذاتَ يومٍ على مُحيطه بهيبته وسَطوَته وأطروحاته !! مُستقلًّا برأيه ، مُتسلِّحا بمكانته .. مُعتنِياً بما تبقَّى من وسامته وأناقته .. لا تراهُ إلا مُواكِباً لِمَوضة الأجهزة والأحذية والأقمشة والعطورات الفاخِرة .. مُتَّسِماً بنوعٍ من الكاريزما الإداريَّةٍ الباذِخة .. مُعتزَّاً بقُدُراته وإمكاناتِه ، مَزهوَّاً بما هو فيه من فخامةٍ ونَظارة !! ظلَّ واثقاً في نفْسِه حتى اجتاحته ( السنين ) و ( السُنَن ) كفطرةٍ أزليَّةٍ لا انفكاك عنها !! لمْ يَدُرْ في خَلَدهِ يوماً أنَّ ( سَرمَديَّة الوظيفة ) ضَربٌ من الخيال ، وأنَّ مكتبه الوثير لا يَعدو كَونه ( صالون حِلاقةٍ ) أو ( مطعماً بخاريَّاً ) أو ( صالة مطار ) يتعاقبُ عليها المسافرون والعُملاء في ذهابٍ وإياب !! .. ثُمَّ ماذا ؟؟ جاءهُ اليوم الموعود ، وأقبل ( الأول من رجب ) !! وأزِفتْ حياته الوظيفية إلى المَغيب ، وحان وقتُ الرحيل بتقاعده الستيني الإلزامي ، فانقلبَ حالهُ رأساً على عَقِب ، وذبُلَتْ روحه المُشرِقة ، ونظرته المُتفائلة ، نتيجةَ رُكامٍ فكريٍّ مَقيتٍ ، طالما استَوطنَ في أروقة إدارته وبين زملائه وأقربائه وأصدقائه ووسائل تواصله ، مَفادُه وخلاصتُه أنَّ ( مرحلة التقاعد ) ما هي في حقيقتها إلا موتٌ سريري ، وموكبٌ جنائزي ، ونذير هَلوسةٍ ووسوسة ، مُنتَهيةً بخراب البَصرة ، وسقوط المَعبَد على مَن فيه !! فعشَّشَتْ وفرَّختْ هذه الرؤية السلبيَّة ، والصورة المُشوَّهة ، والقراءة المَغلوطة في مُخَيِّلته ، مُوقناً أنه باتَ مُهمَّشاً مُهشَّماً منبوذاً ، لا قيمة له ولا شأن !! فيا لهُ مِن مَشهدٍ تراجيديٍّ بئيس ، يتسامَى فوقه العُقلاء والنُّجَباء والخُبراء … أمامَ ( بُعبع التقاعد المزمن ) ، وشيطَنته الجائرة ، وصورته السوداويَّة المزعومة ، أقِفُ معكم في نقاطٍ لا بدَّ منها :
• عزيزي المتقاعد : تَعلمُ يقيناً أنَّ ( دوام الحال من المُحال ) وأنَّ التحَولات في المسيرة البشريَّة والحياتيَّة قَدَراً مقدوراً لا مَفرَّ منه .
• ( لو دامتْ لغيركَ ما وصَلتْ إليك ) ضَع هذه المقولة الذهبية الشهيرة نصبَ عينيك ، فإنها من شِبْه المؤكد ستُحدِثُ تغيُّراً إيجابيَّاً على خارطة أفكاركَ وتصوراتك .
• اسأل نفسك : هل أنا الموظف الأوحد في السلك الوظيفي الذي أُحيلَ إلى التقاعد ؟؟ وهل الصواب يكمُن في تجاهل هذه الحقيقة السائدة ، أمْ في التخطيط السليم والرصين للتعايُش والتكَيُّف معها ؟؟
• تأكد أنَّ ما ترفلُ فيه حالياً من قوَّةٍ وصحةٍ ونشاطٍ ، قد لا يستمر معك طويلاً عند اجتيازكَ الستين ، وستدرك حينها أنَّ نظام التقاعد مِنحةٌ ربانيَّة ، لا مِحنة إداريَّة ، وأنَّ الاستجداء و ( حَب الخشوم ) مِن أجل التمديد والبقاء ، كان قراراً خاطئاً للغاية ، فاحمد الله على نعمة الاستقرار والسكينة والراحة .
• إنْ كنَّا قد نجحنا في مسيرتنا الوظيفية ، فليس بالضرورة استمرار نجاحنا على نفس الوتيرة أمام طوفان التقنية الهادِر ، فأيقِنْ ولا تُكابِر ، أنَّ ( لكلِّ زمانٍ دولةٌ ورِجال ) وأنَّ بين الجيل ( الورَقي ) والجيل ( التِّقني ) بُعدَ المَشرِقين ، وبرزخٌ لا يَبغيان !!
• تكتظُّ جميع الوزارات والمدارس والإدارات الحكومية بجيلٍ شابٍّ له رؤاه ومُنطلقاته الخاصة ، وعَلَيه فإنك ستُلاقي عنَتاً في تجسير الهوَّة ، والتمازج والتجانس ، والإقناع والاقتناع !! ولا غَروَ في ذلك ، فهو مصداقٌ لإستراتيجيَّة علي بن أبي طالبٍ الخالدة : ( لا تُكرِهوا أولادكم على أخلاقِكم ، فإنَّهم خُلِقوا لِزمانٍ غير زمانِكم ) ..
• لستَ استثناءً سلَّمكَ الله !! فمِن البَدهي أنَّ تقلُّص الصداقات وانحسار العلاقات بعد التقاعد ـ بل وقَبله ـ أمرٌ شائعٌ مُعتاد في الأزمنة المُتأخِّرة ، لذا فمِن غير اللائق والمُستساغ وقد تَقدَّم بك السن ، وعَركَتكَ التجارب ، وسَبرتَ أطوار الحياة ، أنْ تنزلقَ في مَعمَعة الفضفضة ونشر الغسيل ، والوَلوَلة والعَويل ، في مُلتقياتك وعَبر وسائل تواصلك حِيال ( هجْر الأصدقاء ، وتلَون الرفاق ، ونكران الجميل ، إلخ ….. ) فقد قيل : ( الحب كالدِّين لا إكراه فيه ) و ( تجاهل من يتجاهلك ، و اهتَم بمَن يهتم بك ، وسلامًا على مَن رحلَ مِن حياتك ) ..
• موظفٌ شقراويٌ شهير { حالته المادية جيدة } أخذَ في التذمُّرِ والتمَلمُل نتيجة تفاقم الفوضويَّة والاتكاليَّة والشلليَّة في إدارته الهامة !! لقيتُه حينها وقد بلغَ الخامسة والخمسين من عُمره ، فنصحته بالتقاعد المبكر ( إنهاءً لحالة الاحتقان المُتصاعدة ) فدَبَّ الهَلَع في قلبه ، خشية الانزواء والفراغ ، قائلا : ( يا أبا فهد ، العمل على علَّاته وإشكالاته أفضلُ لي من الجلوس في البيت ، قلْ لي : ماذا أفعل ؟ وأين أذهب ؟؟!! ) .. وبعد خمس سنين التقيتُ به بعد تقاعده ( الإلزامي ) فإذْ بهِ مُنتَشياً مُفعَماً بالسعادة ، عاضاً أصابع الندم على تأجيل تقاعده إلى الستين ، مُقِرَّاً أنه كان غارقاً في بحرٍ من الأوهام الزائفة !!
• في يوم تقاعدك ( حلِّق عالياً ) مُتجاهِلًا خِلافات الماضي وتَوجُّساته ( إنْ وُجِدتْ ) وَدِّع جميع زملائك ـ بلا استثناء ـ بابتسامةٍ صادقةٍ ونَفْسٍ صافية .. في يوم تقاعدك ( امسح من ذاكرتك نهائياً أسرار العمل ، وخصوصيات المراجعين ، والمواقف السلبيَّة ) مُعاهِداً الله ثمَّ الوطن بعدم إفشائها تصريحاً أو تلميحاً ..
• ( أنتُم أعلَمُ بأمورِ دُنياكُم ) أقولها لمن يواجه نصائح مُتكررة بالتقاعد المبكر ، فإنْ كنتَ ستعاني حاضراً أو مستقبلاً من التزاماتٍ ماليةٍ ، كتزويج الأبناء ، وشراء سياراتهم ، وترميم المنزل ونحو ذلك ، فلا تخضع لأي توجيهات حيال ذلك وكن ( مُسيِّراً لا مُسايِراً ، وقائداً لا مَقُودا ) ..
• وما يدريك فلعلَّ الله أنعمَ علينا بالتقاعد للتزوِّد بالأعمال الصالحات ، واستثمار ما تبقَّى من أعمارنا بالطاعات والقُربات ، ومجاهدة النفس على ترك المحرمات والمخالفات .
• ارفع رأسك عالياً فأنت ( مُتقاعدٌ مِعطاء ) أفنَى زهرة شبابه في خدمة مدينته ووطنه ومواطنيه .. ارفع رأسك فلستَ ( ميِّتاً قاعداً ) فبإمكان سعادتكم مُواصَلة الإنتاج والمَسير بنثر ما لديكَ من خِبراتٍ مُتراكِمةٍ ، وتجربةٍ ميدانيَّةٍ ثريَّة ، تفُوق وبمراحل ما لدَى بعض المُحاضرين والأكاديميين المُختصين ..
• ( القراءة وما أدراك ما القراءة ) هواية الجهابِذة والعباقرة ، والعظماء والنُبلاء ، جاهد نفسك كي تكون هذه الهواية السامية والنافعة على رأس أولوياتك ، فمِن المؤكد إنها ستملأ فراغاً كبيراً في برنامجك اليومي ، وستجني منها ثماراً يانعةً لا حصر لها .
الختام لغازي القصيبي ( يرحمه الله ) :
وتشاءُ أنتَ مِن البشائر قَطْرةً … ويشاءُ ربُّكَ أنْ يُغيثكَ بالمطرْ !!
وتشاء أنتَ من الأماني نَجْمةً … ويشاء ربكَ أنْ يُناوِلكَ القمرْ !!
وتشاء أنتَ من الحياة غنيمةً … ويشاء ربكَ أنْ يسوقَ لكَ الدُّررْ !!
وتظلُّ تسعَى جاهداً في هِمَّةٍ … والله يُعطي مِن يشاء إذا شَكرْ !!
أكتفي بهذه النقاط خشية الإطالة .. وتقاعد مباركٌ وسعيد ، ومرحلة هانئةً هادئة إن شاء الله .. وتقبلوا تحياتي .